المركز اللبناني للدراسات – LCPS

أين “طارت” السياسة في المركز اللبناني للدراسات؟ هل اختفت؟ هل غُيّبت أم إنها انكفأت؟ سؤال أطرحه في اللغة، لأسلك منها إلى المضمون والمآل…

المركز اللبناني للدراسات هو، بالإنكليزية (The Lebanese Center for Policy Studies)، بحيث من المفترض أن يصبح تعريبا: المركز اللبناني للدراسات السياسية أو لدراسات السياسات…

أغلب الظن أن مؤسسي المركز في أواخر ثمانينات القرن الماضي قد اختاروا، بين الإنكليزية والعربية، أن يحفظوا للمركز في لبنانيته، نأيا له بالنفس عن زواريب السياسة، ليسلك أوتوسترادات السياسات العامة. فالمركز اليافع يومها، كان ورقة بيضاء يُخشى عليها من تلوثات السياسة بمعناها الزبائني الضيق ويُراد له أن ينطلق متحررا منها، عاملا على سياسات عطّلتها السياسة، وعلى دراسات لا يقرأها السياسيون إلا في ما ندر، وعلى أبحاث في العمق تظهر سخافة المتداول وسطحيته.

هذا المركز ، المغرّد خارج سرب الرتابة والتقليد، إنطلق بُعيد ما أنتجه استبدال بعض اللبنانيين لعقلهم بعضلاتهم. جاء يملأ، أو يحاول ملء فراغ تركته ندوة لبنانية هنا أو مركز بحثي هناك. جاء متواضعا في مآله، كبيرا في آماله. جاء يدعونا، ونحن حفنة من الديمقراطيين الجدد (على ما حلا لصحيفة ما اتهامنا به يومها)، إلى الانتقال من حيّز ردّ الفعل إلى حيّز المبادرة، ومن حيّز الانتقاد، لا النقد، إلى حيّز تقديم البدائل.

وسريعا جدا، تمكّن المركز منّا. تمكّن من جذب الثائر فينا مناضلا، والعاقل فينا باحثا، والمنكفئ فينا مشاركا. إستطاع المركز أن يكوكب حوله تناقضاتنا الفكرية والمناطقية والطائفية والعمرية، مستثمرا ثروة التنوّع وثورة الناقم. هكذا، تحوّل المركز إلى نقطة التقاء إلى نقطة انطلاق فكان فعلا نقطة تحوّل أساسية في مشهد السياسات العامة في لبنان.

لقد شكّل المركز نقطة التقاء، مقدّما مساحة مشتركة تحوّل عاصفة الأفكار إلى عصف لها. ومن عصف الأفكار، كان ينقلك المركز فورا إلى نقطة انطلاق، واضعا، بل أكاد أقول فارضا “الأجندة”.

قوّة المركز أنه كان مطبخا! فيه “تتواطأ” الأفكار ، فتجتمع المكوّنات لتوضع على نار، سرعان ما تصبح حامية… وخلافا للشائع، فإن كثرة الطبّاخين لم تفسد الطبخة، فالعمل كثير والفعلة قليلون…

قوّة المركز أنه كان مركزيا فعلا ولامركزيا بامتياز، في آن معا:
مركزيّ، فيه يبدأ اللقاء ومنه تنطلق الأفكار والديناميات، ولامركزّي، تدور حوله وتتمحور جمعيات وحملات ومبادرات. في المركز اللبناني للدراسات “حُبل” بالجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات (LADE) وكانت أولى خطواتها في هذا البيت الوالدي قبل أن تستقل وتنطلق لتصبح اليوم مرجعا في الإصلاح الانتخابي وفي مراقبة الانتخابات، ولتستمرّ والمركز في تحالف وقربى…

وفي المركز أيضا، ومع LADE، احتُضنت حملة “بلدي، بلدتي، بلديتي” التي حملت الحكومة يومها، عبر العريضة والإعلام وبقوة الدستور وقرار المجلس الدستوري، على تنظيم انتخابات بلدية عام 1998 بعد ثلاثين سنة على تأجيلها. بعض من هنا اليوم لم ينسَ مسرح بيروت والقوى الأمنية تحاصرنا، والتهمة: بلدي، بلدتي، بلديتي…

وفي المركز أيضا وأيضا كان أوّل لقاء مهّد لتأسيس “لا فساد- الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية” عام 1999… هذا بعض ما في الديناميات وإطلاق المبادرات، أما في المضمون، فقد كان المركز أرضا خصبة لزرع بذور التحديث، ففتح ملفات الإصلاح على مصراعيها، في الإدارة واللامركزية والقضاء واستقلاليته والمال والاقتصاد والاجتماع. ولعلّ منشورات المركز تنطق بذاتها.

هذا غيض من فيض، وقد وصفه أحد النواب، أصدقاء المركز، بأنه “fish bowl exercise”، حيث الوجوه ذاتها كانت تلتقي ولو اختلف الإطار. لكن الواقع أن الأمر اختلف عندما أنتجت دينامية المركز انطلاق جمعيات ومبادرات وأطر مختلفة باتت مستقلة عنه وإنما متحالفة معه في آن، تجدّد في النخب الفكرية والسياسية وتدفعها إلى مواقع تأثير مختلفة… بذلك، بات المركز قوة ضغط أيضا وحاز احتراما علميا واحتل موقع الرصانة، ولا نغالي إن قلنا إنه ساهم في بلورة اتجاهات والدفع بالسياسات العامة قدما. أليس هذا هو دور مراكز الأبحاث والدراسات؟أعزّائي، أصدقاء المركز اللبناني للدراسات.

نحن اليوم نجدّد شباب المركز. نبني على ما راكمه من خبرات وما خاضه من تجارب، وننطلق مجددا إلى رحاب التحديات الراهنة والآتية.في زمن التحولات، نريد للمركز أن يكون في صلبها أداة تأثير واستشراف وتحصين. ونريد للبنان واللبنانيين أن يكونوا حول الطاولة، لا مادة عليها.

وفي زمن الرتابة والكلام المكتفي بالشتيمة، نرغب في دعوة اللبنانيين واللبنانيات إلى التميّز والرصانة، فكرا وقولا وفعلا، في زمن الاصطفاف الحاد الإلغائي للآخر، نرغب في اصطفاف من نوع آخر: مع المؤسسات الضامنة أو مع الزبائنية الراهنة، وفي زمن الأفكار المستوردة، نرغب في تلك التي تكون “بنت البلد” وقد صنعت في لبنان، في زمن الانكفاء عن الشأن العام إلاّ لمن رأى فيه مصلحة خاصة، نرغب في أن يكون المركز حاضنا لقوة لبنان في مفكّريه وباحثيه وأصحاب المبادرة فيه، هؤلاء الذين يضيئون شمعة حيث آخرون يلعنون الظلمة…

أعزّائي،

بدعمكم، سيستمرّ المركز اللبناني للدراسات رأس حربة في الحالة الإصلاحية المدنية، مستقلا غير مرتهن، سيستمرّ يشبّك مع مراكز دراسات أخرى ومع جمعيات ومبادرات مختلفة نلتقي معها ونبني معا، وسيستمر المركز يبحث في السياسات العامة الواسع مداها ولا يدخل زواريب السياسة المظلمة…

والأهم الأهم، أن المركز اللبناني للدراسات سيستمر يزعج من طاب لهم الاكتفاء بالمزري وسيستمر يدفع من فرض على نفسه الانكفاء ليكون جزءا من مجموعة من الناس اختارت الحلم سبيلا إلى الغد واختارت المبادرة والتشبيك والبحث والرصانة والنفس الطويل، سبلا لتحقيقه…المركز اللبناني للدراسات ليس صوتا صارخا في البرية. لقد سمعتموه وها أنتم هنا وكلنا في سماع…

Leave a comment