بقلم زياد بارود

Al mudun logo - ZB

Published in: Al Mudun

ليس جديداً على المشرق العربي أن تقضّ الطائفية مضاجعه. وليس غريباً عليه أن يتداخل الديني والسياسي. وليس عجيباً أن يغرق هذا المشرق في بحور تخلّفه عن اللحظات التاريخية والمحطات الجيوسياسية التي لربما كانت غيّرت في مساره وخرائطه. لكنّه، أي المشرق، يعشق التاريخ، لا ديناميته ودروسه وخلاصاته، ويُبقي الجغرافيا في دفاتر التاريخ، ليستفيق بعد حين على حدود أخرى، وربما على حدّ الهاوية.وبين الهاوية والهوية، خيط رفيع وعصا غليظة في آن. تقترب الهوية من الهاوية كلما غاصت في التاريخ تبحث عن أصولها (ولو كانت فينيقية)، وكأنها تُؤثر أن تبقى في الماضي بدلاً من دخول الحاضر بتحدياته وتبدّلاته ومقتضياته، فإذا بالهوية المأزومة بذاتها تعبّر عن أزمة تفكير وأزمة بدائل وأزمة مصير.

لماذا عجز المشرق العربي، حتى الآن، عن حماية تركيبته المتعددة، إتنياً وطائفياً، والانتقال بهذه التركيبة إلى حيّز غنى التكوين وإيجابيات التنوّع؟ وكيف انتهى به الأمر وقوداً لمشاريع جيوسياسية خارجية قبضت على حركة التاريخ فيه وضبطت إيقاع الجغرافيا؟

من الواضح أن بعض الصراعات الدينية والطائفية يرتبط بديناميات التنافس والتباعد ومحاولات الإقصاء المتبادل. ومن هذه الزاوية، فهي من طبيعة التكوين المتنوّع للمجتمعات. أما أن تدخل على خط تركيبة المجتمع السياسي وتركيبة الدولة (بمفهومها المعاصر)، فتصبح مهدّدة للكيان ولانتظام الحياة السياسية، فأمر يدعو إلى التفكير. هذا التفكير يقودنا سريعاً إلى سبع ملاحظات وخلاصة.

الملاحظة الأولى: أن الفصل بين الدين والدولة، بين الله وبين من اختلفوا على عبادته، يبدو غائباً ومغيّباً، بل إن التداخل بين السياسي والطائفي هو اليوم في الذروة. وقد تساوى المسيحيون (الصليبيون) مع المسلمين (الجهاديين) واليهود (الصهاينة) في سعيهم إلى إدخال الديني إلى الباحة الداخلية لمنازلهم الكثيرة.

الملاحظة الثانية: أن القوى صاحبة التأثير، أكانت عظمى أو معظّمة، عرفت كيف تستغلّ هذه التركيبة وعرفت كيف تُذكي عصبيات سهلة التحريك لتجعل الانقسام عمودياً فتفتّت كيانات وتعيق قيام قوميات وتضرب الحالة العلمانية الناشئة.

الملاحظة الثالثة: أن أزمة الدولة في المشرق العربي سهّلت مهمة تلك القوى التي ذكرت. فبين الذاتية “الزعاماتية” المرضيّة، وبين الشرعية الدينية، وبين لازمة “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، وبين قوانين الطوارئ النصف قرنية، وبين الفساد الرسمي والخاص جدا في آن، غابت الدولة الحامية وحلّت محلّها دولة الحاكم، وهذه الأخيرة لا يمكن أن تكون سوى شركة عائلية بأسهم إسمية تقوم على قاعدة العرض والطلب في سوق غالبا ما تبيع بضائع فاسدة ومنتهية الصلاحية.

الملاحظة الرابعة: أن مسؤولية ما تقدّم تقع على عاتق طبقة سياسية غير تفكيرية! طبقة سياسية اعتمدت وتعتمد ردّ الفعل في أحسن الأحوال، ولا تبادر في أي من الأحوال. طبقة سياسية تعيش على بركة الله وتترك للصدفة أن تسيّر الأمور. طبقة سياسية لا تستشرف ولا تبحث في التحوّلات ولم تقرأ في كتاب التاريخ، أي كتاب ولأي تاريخ، أن لا شيء جامداً سوى من يخرج من بوابة التاريخ ميتاً. هذه الطبقة التي لا تقدّم حساباً ولا تحاسب حتى، هي المسؤولة الأولى عن أخذ شعوبها رهائن في صراعات دينية وعرقية وطائفية، لا لسبب إلاّ لأنها لم تحسن خيارات أخرى.

الملاحظة الخامسة: هذه الخيارات الأخرى هي تلك التي تستشرفها وتستنبطها حالة سياسية رائدة، تأخذ مجتمعها من حيّز التقوقع إلى رحاب الانفتاح ومن حيّز ردّ الفعل إلى حيّز المبادرة. لكن هذه الحالة السياسية لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة أو مستوردة على حاملات الطائرات أو “ممكيجة” بفلوس الذهب الأسود. هي حالة ينبغي أن تكون بنت بيئتها وناسها، ولذلك يتم التركيز تكرارا على قانون الانتخاب الذي يحسن إدارة تنوّع الأفكار عبر صحة التمثيل لكل الفئات. ولا ننسى أن ضمانات دستورية تبقى مطلوبة أيضاً على هذا الصعيد، وها هي تونس تنجح، مثلا، وفي سنوات قليلة، بأن تنجز العملية الانتقالية وتصدر دستوراً يؤمّن ما تقدّم (في النص، على الأقل، والعبرة في التطبيق).

الملاحظة السادسة: لا شك في أن قيام كيان غاصب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جعل كل دول المنطقة الناشئة تنوء تحت ثقل الاحتلال وتداعياته التهجيرية ومطامعه التوسعية وتشجيعه، ومن وراءه، للحالات الطائفية المختلفة. لكن هذه الحقيقة لا تلغي مسؤولية العرب في مواجهة ذلك بأساليب نقيضة.

الملاحظة السابعة والأخيرة: في هذه المرحلة من الصراع، حيث العرب في ما بينهم يتقاتلون طائفيا، تبرز الحاجة إلى علمانيين يفرضون المواطنة كأولوية، وإنما أيضاً وخصوصا كرافعة. يؤسفني أن ألاحظ أن القرن الماضي في بداياته حمل أملاً للحالة العلمانية، فيما نحن اليوم نبحث عما تيسّر من مسالكها. علمانية المؤمنين، إذا سمحتم، هؤلاء الذين يعشقون الله، ويقدّسون، في الوقت ذاتهن حق الاختلاف وحرية المعتقد المطلقة. واسمحوا لي أن أقول أن دور المسيحيين في هذه المرحلة ومسؤوليتهم في تعاظم، وعليهم أن يدركوا أن دورهم، لا عددهم، هو المعيار. دورهم كشركاء في صياغة حالة علمانية تساهم في إخراج المنطقة من عنق زجاجة التكفير إلى رحاب التفكير، وهذه مسؤولية مشتركة بين مختلف المكوّنات.

أما الخلاصة، فأستعيرها من أمين معلوف وهو يختم كتابه “الهويات القاتلة” متخيلاً حفيده وهو يتصفح هذا الكتاب، متسائلاً كيف كانوا أيام جدّه يتحدثون في هذه الأمور…

(*) مداخلة للوزير السابق زياد بارود ضمن ندوة بعنوان “التغيرات في المشرق.. الصراعات عليه وضمنه”، انعقدت في الجامعة اللبنانية.

Leave a comment